يحكى أن سعيد عقل انتسب في بداية العشرينات من عمره إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وعندما كتب النشيد الرسمي للحزب، كان متأثراً جداً بأنطون سعادة لشخصه ولأفكاره، ولكن بالنسبة إلى سعيد عقل، سورية كانت هي لبنان. بكلمات أخرى، لم يكن لبنان هو قطعة الأرض الصغيرة الكائنة على الساحل، بل هو سورية كلها، وهذا نقيض فكر سعادة. وعندما أعلن أنطون سعادة، زعيم الحزب، عن رغبته بأن يكون لحزبه نشيد، كتب سعيد عقل مشروع هذا النشيد وقدمه إليه، يقول فيه:
صخبُ البحر أم الموجُ السخيّ
أم بلاد تملأ الدنيا دويّ
سوريا - يقظةٌ ملء المدى
بسمةٌ ملء الربيع
سوريا فوق الجميع
ولكن سعاده، بحسب الكاتب جهاد فاضل، رفض اعتماد هذا النشيد لسبب جوهري هو أن الشاعر يقول فيه: "سوريا فوق الجميع"، وهي عبارة تستدعي الى الذهن، برأيه، عبارة هتلر الشهيرة يومها: "ألمانيا فوق الجميع". ولأن الحزب السوري القومي كان بنظر كثر في لبنان وسوريا، في تلك المرحلة، مجرد صدى محلي للحزب النازي، حزب هتلر، فقد خاف سعادة من أن يقول الناس: "من فمك أُدينك"، أي أن حزبه هو عبارة عن فرع لبناني وسوري للحزب الأم. وهكذا رفض سعادة، فور الاطلاع على نشيد سعيد عقل، أن يعتمده نشيداً لحزبه وعكف بنفسه على نظم نشيد الحزب خلال وجوده في السجن، زمن الانتداب الفرنسي على لبنان، رغم أنه لم يكن شاعراً.
وإذا كان سعيد عقل قد أسس قدموس على أسطورة فينيقية، فإنه أسس مسرحية شعرية أخرى له اسمها "بنت يفتاح" على قصة توراتية. عندما قرأ انطون سعادة، "بنت يفتاح"، فقد عقله، إذ كيف ينظم شاعر قومي سوري حكاية مستلة من كتاب اليهود، وهم أعداء الأمة السورية؟ أمر سعادة يومها بطرد سعيد عقل من الحزب في وقت كان هذا الأخير مفتوناً بسعاده إلى درجة أن كتب قصيدة "صخب البحر": "صخب البحر أم الجيش السخي أم بلاد تملأ الدنيا دوي..."
سعيد عقل
وانسحب سعيد عقل من الحزب السوري القومي بعد سنتين تقريباً من انتسابه إليه ليتعرف بعد ذلك بسنوات، تحديداً عام 1939، الى شبان عروبيين في جامعة بيروت الأميركية. كان سعيد عقل في تلك الفترة يتردد الى مطعم "فيصل" الواقع عند مدخل الجامعة الاميركية مباشرة، وهناك نظم على إحدى طاولاته الخشبية إحدى أجمل قصائده التي تغزّل فيها بإحدى الطالبات الجميلات التي كانت محطّ إعجاب الجميع ويقول فيها:
سمراء يا حلم الطفولهْ
وتمنّع الشفة البخيلهْ
لا تقربي مني وظلي
فكرة لغدي جميلهْ
في هذا المطعم، وعلى فنجان قهوة، تعرف إليه شباب "العروة" وكان من بينهم الحداثوي قسطنطين زريق، وقيل إنهم طلبوا منه أن يكتب نشيداً لجمعيتهم، ففعل، وكتب النشيد التالي:
للنسور ولنا الملعب
والجناحان الخضيبان
بنور العلى والعرب
ولنا القول الأبي
والسماح اليعربي والسلاح
ولنا هزّ الرماح في الغضوب المشمس
ولنا زرع الدنى
قبباً زرق السنا
ولنا صهلة الخيل من الهند الى الأندلس".
أحدث النشيد ضجة كبرى في المنتديات الثقافية والسياسية العربية وكلف رئيس جمعية "العروة الوثقى" قسطنطين زريق الأخوين فيلفل تلحينه.
لقد نفذ سعيد عقل في نشيده إلى أعماق تاريخ العرب، وتمثل أمجادهم وأيامهم أفضل تمثل، لكنه سرعان ما ندم على هذا النشيد، يقول الصحافي جهاد فاضل: "من الصعب، استناداً إلى كل ذلك، اعتبار أن الشاعر كان مجرد وصّاف من الخارج، أو بائع أناشيد. ففي الكلمات ما يشي بصدق القول وبالاقتناع الوجداني والحماسة المطلقة، وبما يفيد أن الشاعر يوم كتب هذا النشيد، إن لم يكن قومياً عربياً مائة في المائة، فلا شك أنه جاور القومية العربية وأُعجب بها وتطلع اليها بحبّ، قبل أن ينسحب من أوهامها في ما بعد باتجاه الفينيقية اللبنانية".
وباتت النسور علامة في السياسة العروبية "القومجية"، من النشيد السوري الذي يقول: "نحن النسور نسور سوريا العرب"، إلى شعارات النسر التي توضع على القبعة العسكرية من مصر وسوريا والعراق. والمفارقة أن أحد الباحثين السوريين يشرح شعار النسر قائلاً: "وتبقى إشكالية خلط بعض الناس بين النسر والعقاب، فكثيرون يخطئون بوصف شعارنا بالنسر، وهذا يحتاج إلى بحث خاص، ولكن نقول باختصار أن هذا الخلط بين النسر والعقاب جاء إثر الوحدة حيث كانت مصر تتخذ النسر شعاراً، وأصبح هو شعار الجمهورية العربية المتحدة، وعندما انفصلت عرى الوحدة عادت سورية إلى شعار العقاب، وبقي اسم النسر دارجاً على ألسنة الناس، وأذكر أن العسكريين كانوا يصححون لمن يخطئ بتسمية شعار سورية ويؤكدون أنه العقاب وليس النسر".
بعد الهوية السورية والهوية العربية بدأ سعيد عقل يمجد الهوية اللبنانية، وطرح نفسه كمعلم سياسي ورجل مستقبلي، وانصرف إلى كتابة شيء من التاريخ معلناً شغفه المطلق بالتاريخ اللبناني القديم والمرحلة الفينيقية فيه، وأغرق نفسه في السياسيات اللبنانية وبدأ يعمل، هو الذي يتربع على سدة الشعر، من أجل أن يحتل مقعداً نيابياً ليكون طريقه الى الرئاسة و"لبننة العالم بعد بردنة(من نهر البردوني) زحلة وزحلنة لبنان"
عن ألرأي نيوز
سعيد عقل يعاني من انفصام بالشخصية وسقطته الكبرى في الترحيب بالأجتياح الصهيوني لأرض لبنان الحبيبة صعب أن نمحوها من الذكارة
ردحذف