أطلقت مجموعة من الناشطين اللبنانيين حملة «العدالة لحبيب الشرتوني» كي لا تدخل قضيته في طيّ النسيان ويبقى طريداً وملاحقاً في «زمن حماية عملاء إسرائيل والإفراج عنهم بسيارات وزراء وبدعم سياسي وإعلامي وقضائي». هنا حوار مع الشرتوني يتحدث فيه عن الماضي والحاضر والمستقبل
عفيف دياب
حبيب الشرتوني المتهم باغتيال بشير الجميل الذي انتُخب رئيساً للجمهورية تحت الحراب الإسرائيلية صيف 1982، أراد كسر الصمت الذي يلفّ به نفسه منذ سنوات، ولم يخرقه إلا لماماً. منذ أن خرج من سجن رومية إثر سقوط حكومة العماد ميشال عون سنة 1990، يعيش الشرتوني بعيداً عن الظهور الإعلامي والسياسي والحزبي. يمضي أجمل أوقاته مع عائلته، كاتباً وقارئاً ومتابعاً لأدق التفاصيل اللبنانية والعربية ويوميات فلسطين. تحدّث لـ«الأخبار» عن الماضي والحاضر والمستقبل، وعن ملفه الذي نسيه رفاق الدرب وكل المقاومين والمناضلين عمداً أو تجاهلاً أو عن غير قصد. هو لا يخفي أسئلته الواضحة والصريحة والجريئة عن سرّ تجاهل قضيته منذ 30 سنة.
حبيب الشرتوني المقاوم والرافض أن يحوله الرفاق والأصدقاء والمحبون إلى أيقونة أو رمز، لا يجد سوى المقاومة خياراً وحيداً لإحقاق الحق والانتصار على العدو الإسرائيلي وعملائه في الداخل. وهو لا يخفي فرحته حين تسأله عن رأيه في إطلاق الرفاق والأصدقاء من مختلف العقائد والأيديولوجيات والطوائف حملة العدالة له. يقول: «لا يمكن تسميتها حملة دعم؛ لأنه لا جهة رسمية أو حزبية أو طائفة تقف وراءها، كذلك لا يمكن تسميتها «قضيتي»؛ لأنها ليست قضيتي الشخصية في الأصل، بل هي قضية الوطن والمجتمع الذي كان مهدداً بمرحلة أراد العدو فرض شروطه خلالها على المنطقة بأسرها». ويضيف: «هناك مجموعة أصدقاء من الوطنيين وغير الحزبيين، وإلى جانبها بعض الحزبيين الواعين الذين شعروا بأنهم مدينون لعمل حفظَ كرامتهم الوطنية من إذلال المحتل، وقد جمعهم هاجس مشترك عندما رأوا مستقبلاً غامضاً من خلال ما يحصل من أزمات متنوعة وما يواجهونه من صعوبات وطرق مُغلقة ومسدودة ومن تشجيع للخيانة والعمالة». ورأى أن الحملة التي انطلقت «تخدم إحقاق الحق، وتلتزم الأطر التشريعية والقانونية التي قامت على أساسها الدولة اللبنانية».
لكن لماذا تأخر إنجاز ملف حبيب الشرتوني قضائياً، وهل قوى المقاومة والممانعة مقصرة في هذا الأمر؟ يعترض حبيب هنا على تعبير الممانعة ويقول: «لم أستوعبه حتى الآن في مدى امتناعه عن قبول الأمر الواقع، بينما مقاومة هذا الأمر وهذا الواقع هو التعبير الأدقّ والأصح في رفض ما يُفرض علينا». ويضيف معاتباً أن قوى المقاومة «تجاهلت منذ البداية ملفّي ولم تجده عاملاً أساسياً من عوامل انطلاقتها الوطنية ثم الإسلامية بعد عام 1982 الذي شكّل بحكم توقيت الاجتياح خلاله مفصلاً استراتيجياً، فصلَ بين خطة إنهاء المقاومتين اللبنانية والفلسطينية مع إضعاف الموقف السوري، بغية إدخال المنطقة في عصرٍ إسرائيلي غير واضح الحدود ولا المعالم، وبين دحر الاحتلال بعامل الوقت والدخول في عصر قومي كان بإمكانه أن يحصّن جبهات الداخل ويرفع من شأن الجميع، لولا الأخطاء الفادحة التي وقعت ووضعت المنطقة مجدداً في ظل الهجمة عليها أمام حلقة صراع جديدة، مفتوحة على خيارات واحتمالات عدّة». ويسأل: «تخيل لو بقي الاحتلال جاثماً على ثلثي مساحة لبنان مع حتمية إكماله لما بدأه، وبقي بشير الجميّل على سدة رئاسة مطلقة الصلاحيات الدستورية والميدانية». يؤكد أن ملفه «ليس قضائياً على الإطلاق، بل سياسي بامتياز». ويرى أن «التشريعات اللبنانية التي تجيز في ضوء الدستور المساوي بين جميع اللبنانيين وضع القوانين الصحيحة والعادلة، تؤكد أن كل القوى والأطراف التي استفادت من إزاحة بشير واعتلت السلطة والامتيازات، عادت وتنكرت للملف الذي وجب أن يكون وطنياً لا سياسياً أو قضائياً». وقال إن «عدم إدانة العمالة، ولو كانت في أعلى الهرم، عادت وفتحت الباب واسعاً للعملاء الجدد الذين ظهروا بعد انتهاء الحرب. ولولا اغتيال عمالة رأس الهرم لما أحدثت قوانين في لبنان تدين ــ ولو من حيث المبدأ ــ الخيانة والعمالة، ولما تمّ العمل بأي منها». ويؤكد أن ما قام به لجهة «ضرب رأس العمالة في ذاك الوقت، كان ضرباً لمشروع تهويد المنطقة الساعي إلى إقامة إسرائيل الكُبرى ودويلات تيوقراطية سابحة في فلكها»
هل الرفاق في الحزب السوري القومي مقصرون في متابعة قضيتك؟ يرفض حبيب اتهام الرفاق كـ«أفراد» بالتقصير. «الرفقاء كأفراد لا يلامون على أي تقصير حصل معي أو مع ذوي الشهداء أو حتى مع عائلة أنطون سعاده. وهم طوال تاريخ الحزب لم يقصّروا في أداء واجبهم القومي، بالرغم من التضحيات غير المحسوبة التي تحمّلوها». يضيف: «لكن المؤسسة الحزبية التي تمثلهم رسمياً، كانت قد انحرفت تدريجاً عن المبادئ والهدف الذي وضعه الزعيم، حتى عندما كان لا يزال على قيد الحياة. ووفق تركيبة بلادنا السياسية الزاخرة بالاعتبارات والمصالح الفردية، هي المقصّرة بالدرجة الأولى والأخيرة؛ لأنها أمست في نهاية المطاف مؤسسة سياسية تخدم مصالح أفراد، ولا تتوانى في أية مناسبة عن تباهيها ببطولات القوميين وتنكرها في آن واحد لهم وللذين ضحوا طوال تاريخ الحزب حتى لا تضطر إلى الاعتراف بهم أو التعويض جزئياً عليهم». يستطرد قائلاً: «لن تتوانى غداً عن القول إن حبيب الشرتوني ليس هو المجيب عن أسئلتكم، بل هذا المحاور منتحل صفة، فلا وجود لي بالنسبة إليها منذ 1982».
يؤكد الشرتوني أنه غير مقيم في لبنان منذ عام 1990 و«قبله كنت في المعتقل»، و«أنا بعيد عن الساحة اللبنانية منذ 30 عاماً بالرغم من تصريحات آل الجميل الصحافية ومسؤولي الكتائب عن تجوالي بحرية في لبنان واجتيازي الحدود متى شئت، وعن رؤيتهم لي في الأشرفية وما شابه من كلام لا يهدف إلا إلى إثارة النعرات والغرائز التي تقوي الأحزاب الطائفية التي يفترض تسميتها الأحزاب الدموية».
كيف يرى الشرتوني مشاركة القوات اللبنانية اليوم في السلطة؟ يجيب: «صحيح أن بشير (الجميّل) قد أسس القوات (...) وقد تميّزت كوحدات مركزية تابعة للمجلس الحربي عن بقية الميليشيات اللبنانية بحجم التنظيم لديها وبحجم المجازر والجرائم أيضاً التي ارتكبتها في زمن الحرب، لكن عندما انتهى مشروع بشير الجميّل الذي تحوّل إلى مشروع إسرائيلي ـــ أميركي، ولو بتمويل عربي أحياناً، أمسى حزب القوات حزباً لبنانياً بمكوّنات طائفية كمعظم الأحزاب اللبنانية الأخرى، ولم يعد من الجائز اتهامهم إلى الأبد بالعمالة، وخصوصاً بعد أن نبتَ العملاء من كل حدبٍ وصوب، وصارت هناك أحزاب إسلامية تشاركهم توجههم السياسي المؤيد للاستقلالية، لكن تحت راية السياسة الغربية والخليجية بصفة عامة». يشير إلى انتخابات الكورة الأخيرة كمثال على تنظيم القوات اليوم ويقول: «شاهدنا في الأمس مدى دقّة تنظيمهم ومعرفتهم بإدارة اللعبة السياسية والتأثير على المزاج العام، بحيث استطاعوا الفوز في قضاء يُعَدّ شعبياً أو تاريخياً مؤيداً للحزب القومي، فيما تعرّض هذا القضاء في ما مضى ولهذا السبب تحديداً لعدد من اعتداءاتهم مع حلفائهم».
لا يخاف الشرتوني على المقاومة في لبنان. ويقول: «لست قلقاً عليها؛ لأنها متجذرة من ثلاثينيات القرن الماضي تحت أوجه عقائدية متنوعة». يؤكد أن مرحلة بناء الدولة القادرة على خوض الحرب وامتلاك القدرات الكاملة ومقاومة أعداء البلاد والطامعين بها «هي أشد مقاومة، وهذا ممكن لشعب سطّر أعتى البطولات وأعظمها».
يرفض الخوض في تفاصيل عملية اغتيال بشير الجميّل، فهي تحتاج «إلى سرد طويل، ولذلك سأرجئ الحديث عنه إلى وقت لاحق».
إذا عاد بك الزمن إلى الوراء، فهل ستنفذ عملية الاغتيال؟ يجيب: «لن يعود الزمن إلى الوراء، ولست هاوي اغتيالات، لكن اقتضت مني التضحية؛ لأن مصرعه أنقذ البلاد بالرغم من اعتباره عند أقلية قائداً للمقاومة المسيحية، وكأن هناك احتلالاً إسلامياً للمنطقة استوجب قيام هذه المقاومة أو أننا نعيش في القرون المظلمة وسط حروب دينية، لا في ظلّ جمهوريات أو قوميات أو مجتمعات، إنما فقط وسط فئات دينية متناحرة. أو كأنّ المقاومة تقتل الناس على الهوية وتستبيحُ أملاكهم وأعراضهم وتعادي مداورة كل فئات الشعب، بدل أن تدافع عنها. إنها المدرسة الانعزالية التي أخذت مجدها قبل أن تليها زميلتها السلفيّة أو التكفيرية في صناعة الأمجاد، وكلتاهما خطرٌ على مجتمع مؤلف من الأقليات».
عتب على القومي
حبيب الشرتوني عاتب بشدة على الحزب السوري القومي الاجتماعي. يقول: «اعتبرني الحزب منذ 1982 عبئاً عليه وتنكّر لي إلاّ من باب التباهي بالبطولة الآتية هكذا من خلف الضباب والسحاب وعلم الغيب. بينما كان هاجسي حمايته وعدم تعريضه أو تعريض أي فرد من أفراده لأي أذى. ومع الوقت اقتنع الناس أنني فتحت بطولة على حسابي، وهذا التعبير الساخر لسعيد ميرزا». ويتابع: «بعد ثلاثين عاماً من السجن والتعذيب والنفي وخسارة أهلي وأربعة أفراد من عائلتي وكل ما أملك، وعدم تكبيدهم أي خسارة، انزعجَ خاطرهم من تعبير صغير قلت فيه: نفّذت ما طُلب مني تنفيذه!». ويختم: «أنا أعتبر أن فكر أنطون سعاده ملك الإنسانية، ومسألة الوحدة القومية في بلادنا هي مسألة فلسفية واجتماعية تخاطب زمناً لم يأت بعد، ولن تحتاج تلك الوحدة المستقبلية اليهم ولا إلى جميلهم، بل عندما سيقتنع الشعب بها كما اقتنعت شعوب كثيرة، سيحققها من تلقاء إرادته وذاته، لأن هناك مراحل طويلة لا بدّ من اجتيازها قبل ذلك».
حبيب الشرتوني