61عاماً مرت على رصاصات فجر السابع من تموز 1949، على مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي، أنطون سعادة. التزم بعض الحزبيين قَسَمهم فربّوا أسراً قومية، بينما ابتعد آخرون. وفي وقت توقف فيه الحزب عن التبشير بالنهضة، يجد أهله دائماً من يطرق بابهم.
غسان سعود
في شارع الحمرا، بعد مقهى الشيوعيين بعشرات الأمتار، هناك مقهى القوميين. وفي آخر الشارع نفسه، مقهى آخر بين طاولة وأخرى هناك غالباً طاولة للقوميين. ومن الحمرا إلى المقدسي، الوجوه نفسها تجتمع يومياً في أحد المطاعم القريبة من منفّذية الطلبة في الحزب السوري القومي الاجتماعي. للقوميين أكثر من مطاعمهم الخاصة ومقاهيهم. لديهم أسماؤهم الخاصة، رنّات هواتفهم، مطربهم ومناطقهم. لكنّ القوميين يعتقدون أن اتهامهم بالتحول إلى طائفة يتزوج أبناؤها بعضهم بعضاً ولا يتحاورون إلا مع أنفسهم ويغلقون أبواب منازلهم بوجه من ليس منهم... يحمل الكثير من التجني. يوافقون على أن ثقلهم اليوم في الكورة وبعض المتن الشمالي وبعض عاليه، لكنهم يؤكدون حضورهم في جميع المناطق اللبنانية، واستعدادهم الدائم لأن ينشطوا حيث يستطيعون.
وعي بالوراثة
هنيبعل كرم (مواليد الكورة عام 1975) واحد من العائلة القومية. «طبعاً، تنقّل الوالد، فايز كرم، بين مواقع قياديّة عدّة في الحزب، وأنا ربيت بالجو: اجتماعات حزبية في المنزل، قضايا الحزب قبل الطعام وبعده وقبل النوم وبعده، تشجيع على المشاركة في النشاطات الكشفية، والكتب والصحف الحزبية تملأ المنزل. كان والدي حريصاً على الالتزام بقسمه الحزبي وتربية عائلة قومية».
بداية المسيرة أو السيرة الحزبية كانت مع الأشبال، الذين أخذه والده إليهم قبل بلوغه سن الرابعة. لاحقاً، بعدما تهجّرت أسرته من الأشرفية إلى الكورة بسبب موقفها السياسي المعلن، انتقل والده من العمل الصحافي إلى العمل في فرن، ما أثار إعجاب هنيبعل، وحفّزه على الاهتمام أكثر بالحزب ليكون على صورة والده في النضال ومثاله.
في المخيمات الحزبية، تعرّف إلى روحية جديدة بين «الرفاق» تختلف عن العلاقات الاجتماعية التي ألفها، سواء من حيث الاحترام المتبادل أو في توطيد العلاقات. وكان المعنيون يشددون على شرح معنى كلمة «اجتماعي» التي ترد في اسم الحزب. فالتوجيهات كانت واضحة: عليكم أن تكونوا فاعلين في الإطار الاجتماعي، حاضرين في النشاطات كلها، ومستعدين دائماً لنسج علاقات مع محيطكم، آخذين في الاعتبار أنّ ثمة عدواً واحداً هو إسرائيل، وأن تقتدوا طبعاً بأفكار أنطون سعادة عن المجتمع الواحد لا المجتمع الانعزالي.
تحوّل طائفة أعضاؤها يلتفّ بعضهم حول بعض لديهم مناطقهم ومقاهيهم
لكن، ألم يتحوّل الحزب إلى طائفة، أعضاؤها «يلتمّ» بعضهم حول بعض، لديهم مناطقهم وشوارعهم ومقاهيهم ونواديهم؟ أبداً، يردّ هنيبعل، قبل أن يستدرك محمّلاً العصبية الحزبية المسؤولية عن ظهور القوميين في بعض الحالات كأنهم لا يحبّون إلا أنفسهم.في الجامعة اللبنانية، قسم الفلسفة، طلب الحزب من هنيبعل أن يتواصل مع الطلاب من دون أن يكشف هويته. لماذا؟ هكذا أسهل، يرى هنيبعل، ويكمل شارحاً: خرجنا من حرب ومشاكل حزبية تقلق المواطنين وتخيفهم من كل ما هو حزبي. إضافةً إلى أن القوى الإسلامية النافدة في طرابلس تعدّنا كفّاراً.
يتجنب هنيبعل لاحقاً الإجابة عن سؤال بشأن ما فعله الحزب للحد من الأفكار المسبقة السلبية تجاهه، ولمخاطبة المواطنين بثقة أكبر بالنفس. ويؤكّد أنه يشجع الوصول إلى ما يريده دون أن يضع زوبعة على صدره إن كان هذا الأمر سيعوق تحقيقه لهدفه.
لاحقاً، تزوجت قوميّة؟ طبعاً. لماذا طبعاً؟ في الحب لا تستطيع التحكّم كثيراً، لكنني حرصت على تكوين حياتي ضمن هذا الإطار. وهذا الأمر مرتبط بطبيعة حياة القومي، هو شخص يعيش المصطلحات الحزبية. هو ليس مجرد منتسب إلى نادٍ أو جمعية، هو قومي في حياته اليومية عبر سلوكه وتعاطيه مع الناس. وأنا، يتابع هنيبعل، ملتزم بقسَمي وسأتحمّل كوالد مسؤوليتي عن توعية أولادي، وتشجيعهم على أن يكونوا قوميين.
لكن ألا يود الاتعاظ من تجربة والده، وعدم إذاقة أبنائه الكأس المرّة التي تذوّقها؟ أبداً. أكثر ما يعتز والدي به بعدما خسر الكثير في سبيل الحزب هو تربيته أبناءً قوميّين.
يبقى سؤال أخير: يعجبك الحزب في حالته الحالية؟ أكيد. فبعد كل ما مرَّ به من صعاب، صمد، عقيدته صلبة، فكره نقي وما زال قادراً على دخول الطوائف كلّها. ولو كان يصله ما يصل غيره من دعم معنوي وسياسي ومادي لابتلعها جميعاً.
توأمة الفكر والأمن
الأكيد أنّ كثيرين من القوميين لم يلتزموا بقسمهم، فابتعد أبناؤهم عن مبادئ الحزب. في المقابل، يُسمع في الحزب بين الحين والآخر طرق للباب من راغبين في الدخول لا يحملون جواز مرور عائليّاً. من هؤلاء مهنا البنا (مواليد عاليه 1982). أهله المتديّنون جداً كانوا يعتقدون خلافاً لكثيرين في بلدته، شارون في عاليه (بلدة الشهيدين القوميين حسين البنا ووجدي الصايغ)، أن الحزب القومي يحارب الأديان، ويهدّد بالتالي الطائفة التي ينتمون إليها. في الخامسة عشرة من عمره بدأ مهنا البحث عن وسيلة تشعره بأنه منتِج في مجتمعه. أسس مع بعض الأصدقاء حركة تنموية نظمت بعض النشاطات المتواضعة. لاحقاً، اطّلع على منشورات الحزب التقدمي الاشتراكي فأعجب ببعض الأفكار (هو الآتي من عائلة يزبكية لم يجد لدى اليزبكيين ما يقرأه)، لكن سرعان ما وصل في قراءته إلى أنطون سعادة، فبدأ سعيه وراء الحزب القومي. هكذا، ذهب هو بمبادرة شخصية إلى حزب «كان يمكن أن لا يأتي أبداً إليّ». ويتحدث مهنا في هذا السياق عن إعجابه بحزب يقرر شبابه الاستشهاد ليس طمعاً بجنة ولا أملاً بحصول عائلاتهم على مكافآت، بل سعياً وراء نهوض أمّتهم. ولاحقاً تلمس أن الاقتداء بسعادة كفيل بعدم إشعار أي حزبي بأنه مغبون، وهو شعور يفتقده الحزبيون في أحزاب أخرى.
اليوم، صار العمر الحزبي لمهنا تسع سنوات، نجح خلالها في تغيير نظرة أهله إلى الحزب، وبدأ التأثير في مجتمعه. يردّد بثقة كبيرة: «أنا أنتمي إلى نهضة قادرة على أن تغيّر وجه التاريخ. الانتماء إلى القومي يعطي الحزبي جرأة غير معهودة. وأقول انتماء لا انتساب لأنّ القومية السورية الاجتماعية هي مشروع حياة تلتزم به في كل لحظة. ويشير في هذا السياق إلى اتكال القومي على فكره الحزبي في كل ما يصادفه خلال حياته».
يتذكر مهنا يوم أقسم اليمين، مذكراً بأنه «لا ترداد ببغائياً لقَسَم جماعي في الحزب القومي». تُقسم بشرفك وحقيقتك ومعتقدك أن تنتمي إلى النهضة، والانسحاب لاحقاً يعني التنازل عن هذه الأركان الثلاثة. يؤكد أن من ينتسب إلى الحزب لا ينتظر وظيفة في المقابل ولا أجراً شهرياً.
ما سر التوأمة بين الفكر والأمن في الحزب القومي، بالنسبة إلى مهنا؟ تبقى ملامحه على جمودها، ويرد: «هذه التوأمة ضرورية لاستمرارية الحزب العلماني. فللأحزاب الطائفية مقدسات تمنع المسّ بها. أما الحزب العلماني، فلا شيء يحميه ويحتاج إلى أن يحمي نفسه بنفسه. وحين سيفقد الحزب هيبته الأمنية سيستسهل كثيرون القفز فوقه».
بالمنطلق ذاته يتحدث مهنا عن التضامن الحزبي، فيرى أن الفرقة تشتّت، والحزبيين مضطرون إلى هذا التضامن ليحافظوا على أنفسهم. ويرى مهنا أن الحزب الذي عرف كيف يبقى موحّداً حول أفكاره رغم العواصف التي مرّ بها، يخرّج اليوم أشبالاً قادرين على أن يشرحوا أفكار الحزب.
بين هنيبعل ومهنا يبدو القومي اليوم واثقاً بنفسه، يتصرف غالباً باعتباره المالك الحصري لمفاتيح النهضة، مثقفاً ومسلّحاً، يستصعب الانسجام مع غير القومي، سواء أكان في المقهى أم في الجامعة أم في المنزل. نقاط قوة هذه أم ضعف؟ التجربة القومية نفسها تصعِّب التحديد.
عن ألأخبار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق